هلوسات الثورة

أحرق البوعزيزي نفسه ومات على سرير مستشفى. صرخ تونسي كادح: "هرمنا...". فاجئ الرئيس الأمريكي العرب حين خرج ليصرِّح: "ارحل الآن". ورحل بن علي. دفع نبأ الهروب المفاجئ تونسيا إلى الخروج إلى شوراع تونس ليلا وكأنه يلقي بيان فرار الرئيس ليصيح بملء فيه: بن علي اهْرَبْ... وانتقلت عدوى الشوارع إلى مصر المحروسة. غصَّ ميدان التحرير بالثوار. لحظتها كنت أتابع تطور الأحداث عبر التلفزيون، بل كان كل البيت يواكب ما يجري باهتمام بالغ، كان ذلك الجمع الاستثنائي للعائلة أشبه بجموعنا حول مباريات المنتخب الوطني المغربي في الكان أو كأس العالم. حتى والدتي انخرطت في لعبة المتابعة، كانت تتابع ما يجري في ميادين مصر بنفس درجة الاهتمام الذي كانت توليه للمسلسلات التركية المبنية أحداثها على عنصري التشويق والمفاجأة. أما أخي الأكبر محمد، فقد كان يتابع الأحداث من خلال التلفزيون والإنترنيت ويعلق عليها عبر حسابه على تويتر، كانت كل تغريداته مساندةً لثوار مصر ومطالبةً برحيل مبارك. في لحظة ما شعرت به وقد أضحى مصريا أكثر من المصريين. حتى أنه فكر بجدية في السفر إلى مصر والانضمام إلى شباب الثورة، ولولا وقوف والدتي في وجهه ورفضها لفكرة السفر، لسافر وشارك في مليونيات التحرير. عمي حسن، الماركسي العتيق، ترك زوجته وجاء ليشاركنا متعة الفرجة الطارئة. كان يسابق الأحداث، توقع تنحي مبارك منذ انطلاق الشرارة الأولى للثورة. كما توقع تولي البرادعي رئاسة الجمهورية مؤقتا وإنشاء مجلس للثورة، يدبر المرحلة الانتقالية بعد أن يقيم محكمة ثورة لمبارك ونظامه في حال لم يسلك نفس طريق بن علي ويهرب إلى المملكة العربية السعودية أو الإمارات العربية المتحدة. بعد خطاب مبارك الذي خاطب فيه مشاعر المصريين وعواطفهم علهم يسمحون له بالاستمرار ستة أشهر لاحقة، أصيب جميع أفراد عائلتي بالإحباط، بعدما كانوا يترقبون تحقق أول توقعات عمي حسن وهو إعلان مبارك لتنحيه عن الحكم. هناك بالبيت الأبيض كان يقبع أوباما، ويخرج متحدثه الرسمي ليؤكد على اهتمام الرئيس بما يجري ومتابعته للوضع بعدما أنشأ خلية أزمة خاصة بمصر. وهنا ببيت والدتي كان الجميع يترقب خروج باراك أوباما ليصرخ في وجه مبارك قائلا: "Go out now"، ارحل الآن. والدتي التي كانت تلعن أمريكا حين يسقط شهيد في فلسطين المحتلة، وأخي محمد، اليساري الناشيء في أحضان جبهة اليسار الفرنسية، كانا يراهنان على أوباما ويؤمنان بأنه الوحيد من يملك القدرة على دفع مبارك للرحيل وحسم الموقف. كانا وجلان طوال الوقت، ويخافان إصابة الشباب بالإحباط فيعودون إلى بيوتهم دون تحقيق مطالب الثورة: "عيش، حرية، عدالة اجتماعية، كرامة إنسانية". بقربهما كان يجلس عمي حسن، يتحدث عن ثورة يوليو وشعارات عبد الناصر القومية، وعن مساندة الاتحاد السوفييتي له في حربه ضد الإمبريالية العالمية، لكنه سرعان ما يتوقف عن ترديد الأمجاد الغابرة ويشارك والدتي وأخي رهانهما على أمريكا في حسم المعركة لفائدة شباب الثورة. "ارحل الآن Go out now" هكذا خاطب أوباما مبارك خلال كلمة متلفزة قصيرة. عمت الفرحة أرجاء البيت، أطلقت والدتي العنان للزغاريد وانخرط عمي الماركسي وأخي اليساري في نوبة رقص هستيرية ذكرتني بموجات الفرح التي عادة ما كانت تعقب تسجيل المنتخب الوطني المغربي لهدف ضد منتخب الجزائر أو مصر أو تونس. حتى أن عمي فتح نافذة الصالة المطلة على البحر، ثم أخرج رأسه وصاح في تلك الساعة المتأخرة من الليل: عاشت أمريكا "Vive L’Amérique "، بعد أن كان شارك في مظاهرات مناهضة لغزو العراق بباريس وأحرق العلم الأمريكي أكثر من مرة وهتف مع رفاقه مرددا: "الموت لأمريكا". كان زوجي غارقا في دراسة بعض الملفات التي اصطحبها معه إلى البيت، غير حافل بما يجري من أحداث، حتى أنك إذا ما طرحت عليه سؤال: "من هو البوعزيزي" ربما أجابك: "لاعب كر قدم"، فالرجل لا يفكر سوى في ربح القضايا وحصد مزيد من المال. أما أنا فكنت أتابع ما يحدث على واجهتين، واجهة القنوات والمواقع الإخبارية، وواجهة ردود فعل أفراد أسرتي حول الأحداث. في غمرة فرحه الجنوني أمسك عمي حسن بيدي وخاطبني بصوته المتوهج قائلا: "جيهان، انهضي وشاركينا الرقص"، رفضت بلطف وفضلت أن أدخل على حسابي على الفايس بوك لأكتب قائلة: "فورة لا ثورة". أغلقت حسابي، ودعتهم وغادرت رفقة زوجي إلى بيتي. في الطريق وبعد لحظة صمت قصيرة، ضرب بكف يده اليمنى على مقود السيارة ثم علق قائلا: "يساري يمني النفس بخطاب الرئيس الأمريكي وماركسي بائد يهتف بحياة أمريكا". اخترت الصمت ولم أعلق حتى الآن.
شاركه على جوجل بلس

عن نون

    تعليقات بلوجر
    تعليقات فيسبوك

0 التعليقات:

إرسال تعليق