حبٌّ قديم (قصة قصيرة)

في البيت القديم، وفي حي لو بانييه الشعبي بالقرب من الميناء القديم بمرسيليا، وقبل أن يحضنني امتداد هذا البحر بحب، وقبل أن تحضن أهذابي موجه الهادر بشغف. هناك نبت في دهاليزي السرية رجل بقليل من الصمت وكثير من ضجيج أحاسيس استوطنتني وحولتني لامرأة نذرت وقتها للجنون وقلبها لرجل لا تعلم عنه أدنى التفاصيل الممكنة، لا تعلم غير وقفته المتكررة على شرفة التداعي حين زمن بعينه. يقف بالشرفة كل مساء، ببيجامته البيضاء فيبدو لي أبيضا في أسود، أشعر حينها وكأنه رشدي أباظة في "مبكى العشاق"، وكأني سعاد حسني، في دور سكينة الخادمة، أقف بالشرفة المقابلة، لأودعه قبل أن أغيب عنه وأنفذ فكرة الانتحار التي نفذت إلى ذهني انتقاما لحبي له. يقف هناك شاهرا سيجارته بزهو وكبرياء، لا أعرف كيف بدا لي كطارق بن زياد وقد أحرق كل السفن، ثم أشهر سيفه وصرخ، بأعلى صوته، في وجه جنده: "أين المفر؟..."، حتى ارتعدت فرائس شبه الجزيرة الأيبريَّة كلها. أغلب الظن أنه مغاربي، هكذا أسرّت لي سحنته ونحن نتقاطع بشارع فوبون ذات فرصة عابرة. وهكذا أخبرني غيابه وانقطاعه عن الشرفة. ربما، شعر بالانزعاج مني، أو ربما هي ذهنيته العربية ماتزال تلازمه ولا تطاوعه على المكوث واقفا قليلا من الوقت قبالة فتاة ضبطت زمنها المراهق على تلك اللحظة الفارقة من عقارب حياتها الرتيبة لتشبع نزقها العاطفي منه. وبكبرياء بنت الشرق وعزتها، أحكمتُ إغلاق باب الشرفة ولم أعُد أفتحه إلا صباحا كي تغتسل غرفتي بضوء الشمس، ويعبر الهواء إليها فتتيمم وتقيم صلوات الاشتياق إليه في حضرة الغياب. وفي المساء، أجلس خلف بابها أترقبه من بين الشقوق، أنتظر غيابه لأدفن أشواقي في مطامير شرق جاء يقاسمني غرفتي الصغيرة ولا يقبل أن يمنحني فرصة الاختلاء بجسدي لأليق به ويليق بي. 
شاركه على جوجل بلس

عن نون

    تعليقات بلوجر
    تعليقات فيسبوك

0 التعليقات:

إرسال تعليق