"التاريخ لا يعيد نفسه". فكرة ساذجة لأستاذ تاريخ غبي قضى الموسم كله يكررها على مسمعي. وبغبائي الشرقي صدقته، كما صدقت كل النظريات الخبيثة التي تبرر هزائم شرقي الواهن. كنت أعتقد أن الفرنسيين لا يخطئون أبدا، وأننا وحدنا المجرمون والقتلة واللصوص، المتخلفون والبدائيون. اللعنةعلى أستاذ التاريخ. ها هو التاريخ يعيد نفسه ثانية. صحيح أن الزمان والمكان مختلفين تماما، لكن، تظل الحرب هي الحرب، بقليل من غباء مؤرخي الموت نستطيع أن نميز بينها، حرب أولى، حرب ثانية وحرب ثالثة، وهكذا... اللعنة على أستاذ التاريخ. ها هو التاريخ يعيد نفسه من جديد. صحيح أن باريس لا تصلح إلا للعشق، وأن مرسيليا ترتدي الآن ثوب عروس الثقافة الأوروبية. لكن، التاريخ هو التاريخ، بكل تفاصيله المثيرة للضحك والبكاء معا. كنت أحسب أن صفحة سوداء حارقة من حياتي قد طويت وإلى الأبد، ولا أحد يجرأ على إعادة فتحها. ها هو يصرُّ على أن يقتلني مرتين، أن يميتني مرتين، موت بباريس في أوج صقيع العواطف بيننا، وموت بمرسيليا، موت، يتحيّن أول فرصة مواتية كي يجهز عليَّ بلا أدنى رحمة. ها هو الآن بلاجولييت ، رمقته يقف أمام رواق كتب. وحدها رقبته كانت واضحة بما يكفي كي أتذكر أشرس المعارك الخاسرة التي خضتها ضده، من أجل أن يعيش حبي داخله ويكبر. كم اشتهي نحره الآن!..في خاطري رغبة كاسرة، أرغب أن أدنو منه دون أن يحس بي، أستل شفتيَّ من فمي، أركب كاتم صوت لضعفي القابع في، وأصوبهما نحوه، أطبع قبلة مميتة على نحره، أتركه مدرجا في قسوة القدر وغضبي التليد، وأختفي إلى الأبد. هكذا صنع بي ذات ليلة موحشة وباردة. هناك أمام كاتدرائية نوتردام، وقف في طريقي مثل قوطي جميل نسي التاريخ أن يكتبه، اقترب مني وصوَّب نحوي ذراعيه المفتولتين، ضمّني إليه بعنف، طبع قبلة عميقة وحارقة على فمي فأرداني عاشقة للسراب واندس في ضباب باريس واختفى. تركني مدرجة في دماء خيبتي، أشهقُ، أندبُ وجه عشقي الذي مات وهو مايزال في المهد. كاد برد باريس والعواطف أن يقتلني لولا رجل بعث به القدر إليَّ من قلب الضباب، دثرني بذراعيه الدافئتين ومنحني قبلة الحياة. اللعنة على أستاذ التاريخ. صدقت فكرته هذه المرة، التاريخ لا يعيد نفسه. لا توجد امرأة غيري تمنحه قبلة الحياة.
- تعليقات بلوجر
- تعليقات فيسبوك
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة
(
Atom
)
0 التعليقات:
إرسال تعليق